Al Masry Al Youm

الخِداع

التفكير النقدى يساعد الإنسان على نمو وعيه بنفسه وبالعالم، ويُمَكِّنه من التعامل الذكى مع الخداع، فيتضاءل احتمال الخلط بين الوهم والواقع، ويتواضع الناس لعلمهم بنواقصهم، فيتفقون ويتوافقون ويُنتِجون.

د. منصور الجنادى يكتب: ‪drganady@ gmail. com‬

إحدى وسائل فهم أنفسنا والعالم هى النظر إلى قدراتنا الذهنية، ومنها القدرة على الخداع.

هل الخداع من صفات الأشرار فقط، أم أنه متأصل فى الطبيعة البشرية؟، هل كل منّا خادع بالضرورة؟، مخدوع بالضرورة؟، كلاهما؟.

للخداع أشكال كثيرة: الكذب، النفاق، ازدواج القيم، المظاهر الكاذبة، الأيديولوجيات الفاشلة، وهكذا.

الخداع إذًا هو أقوال أو أفعال أو بيانات، تُضلِّل الآخرين، وتُبعِدهم عن الواقع، أو تدعوهم إلى أفكار، أو قِيِم، أو سلوكيات مغايرة للحقيقة، أو لا تفِى بأغراضها.

قد يحدث الخداع دون وعى الخادع، أو دون وعى المخدوع، أو كليهما، فالخادع يمكن أن يَخدَع دون أن يدرى، بل أحيانًا وهو مقتنع تمامًا بأنه لم يفعل سوى الخير. وكذلك المخدوع الذى قد يُخدَع وهو فى منتهى السعادة. ولكن فى النهاية هناك مُنتفع ما، كما هو الحال فى بعض الإعلانات التجارية مثلًا، وكثير من الأمور الأخرى الأكثر أهمية للمجتمع .

هل الإنسان وحده هو القادر على الخداع؟. بالطبع لا. الحيوان أيضًا. الحرباء يتلون جلدها بلون الأرض إنقاذًا لنفسها من الأعداء. وفى عصرنا هذا تمت إضافة كائن جديد إلى الحيوان والإنسان، وهو الذكاء الصناعى.

أحد أساليب خداع الذكاء الصناعى يسمى التزوير العميق ‪deep fake‬ ، كإنتاج الكمبيوتر الذكى مثلًا لفيديو يتحدث فيه شخص بكلمات لم تصدر عنه فى الحقيقة إطلاقًا. أو أن نتلقى مكالمة تليفونية نسمع فيها صوت الابن أو الأخ، يستغيث بنا، ويطلب منا سرعة تحويل مبلغ ما إلى حساب ما، ثم يتضح لنا أن هذا الصوت- الذى نعرفه جيدًا، ما هو إلا صوت آلة ذكية.

وبالإضافة إلى الحيوان والإنسان والكمبيوتر، فالخداع قد يصدر عن مؤسسات

وشركات كبرى، بل وجهات حكومية، إن لم يصدر أيضًا عن هيئات تدَّعِى العمل الخيرى أو أى قيم كبرى )انظر مقالى السابق بالمصرى اليوم «الحذر واجب كلما علَت الشعارات».) الفرق بين وجهات النظر والخداع قد يكون خطًّا رفيعًا حقًّا.

كيف نَقِى أنفسنا إذًا من طوفان الخداع هذا الذى نعيش فيه؟. الإجابة تتطلب شيئًا من الصبر والتعمق، فكما هو الأمر فى جميع شؤون الحياة، السطحية خداع إضافى.

الخبر السيئ أولًا: الخداع الذى نتعرض له أكثر بكثير مما نتصور. قد نعتقد أننا نتعرض للخداع مرة فى السنة أو الشهر مثلًا، ولكننا نتعرض للخداع عشرات المرات على الأقل يوميًّا، خاصة إن وضعنا «خداع النفس» فى الاعتبار، فهذا يحدث على مدار الساعة: سعر الفاكهة مرتفعٍ؟. نعم، ولكن سأشتريها لأن نوعها جيد. تخطينا ميزانية العطلة الصيفية.؟ «خلينا نتبسط، هو احنا كل يوم

بنسافر؟». أخطأ الرجل فى حقى؟. نعم، ولكنك تعلم أن قلبه طيب ولم يقصد إهانتك. المدير غير كفء؟. هؤلاء الموظفون لا يصلح معم سوى مثل هذا المدير.. إلخ.

كثير من التبريرات التى قد يصح بعضها، ولكن الكثير منها بالتأكيد خداع نفس، نمارسه بشكل تلقائى غريزى، لا نعيه ولا نشعر به، وذلك للحفاظ على توازننا النفسى، وتفادى الاضطراب الذهنى والعصبى إن واجهنا جميع متناقضات الحياة التى تحيط بنا بالعقل الواعى والمنطق. وهذا هو الخبر الجيد، فخداع النفس يُلَطِّف من ضغوط الحياة علينا، مثله مثل النسيان والخداع الحسى وظواهر نفسية أخرى. خداع النفس يُيسر علينا التعامل مع عشرات الآلاف من المؤثرات الصوتية والمرئية والاجتماعية المحيطة بنا، والتى سنصاب بأمراض نفسية وجسمانية، إن كان علينا التعامل معها جميعًا.

ولكن الإفراط فى خداع النفس ينتهى أيضًا

بالانفصال عن الواقع، ووقوعنا فى الكثير من المشاكل. لذلك فكما أننا كائنات ناقصة، متواضعة الإدراك، خادعة النفس، ففينا أيضًا آليات التوازن النفسى اللازمة للحفاظ على الحياة. بينما تميل مراكز معينة فى المخ البشرى إلى خداع النفس، فإن الفص الأمامى من المخ، والمنوط بالتفكير النقدى، قادر على الشك والاختبار والتمحيص لتفادى الإفراط فى خداع النفس هذا.

وبالطبع تتفاوت الشعوب فى تعاملها مع كل من خداع النفس والتفكير النقدى، وفقًا لمستوى التعليم بها، وتشجيعها لثقافات العقل والنقل.

التفكير النقدى يساعد الإنسان على نمو وعيه بنفسه وبالعالم، ويُمَكِّنه من التعامل الذكى مع الخداع، فيتضاءل احتمال الخلط بين الوهم والواقع، ويتواضع الناس لعلمهم بنواقصهم، فيتفقون ويتوافقون ويُنتِجون.. وتزيد فرص المجتمع فى التقدم العلمى والنمو الاقتصادى والاستقرار السياسى.

كان صلى الله عليه وسلم أول مَن قدَّم للمرأة طوقَ نجاٍة مما كانت تُوشِك أن تغرق فيه للأبد، ولم يكن ما قدَّمه فى هذا الشأن نتاجَ عبقرى، أو حكمةَ حكيمٍ، أو دعوةَ مصلحٍ، أو قرارَا سياسيا، وإنما كان وحيًا من الله تعالى، فنادى فى سمع الزمان وصرخ فى العالم كله، وقال كلمته الخالدة: «النساءُ شقائقُ الرجال.»

مساحة رأى

ar-eg

2023-03-27T07:00:00.0000000Z

2023-03-27T07:00:00.0000000Z

https://almasryalyoum.pressreader.com/article/282282439551723

Al Masry Al Youm